فصل: (سورة يوسف: آية 58)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة يوسف: آية 55]

{قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)}
{اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ} ولنى خزائن أرضك {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} أمين أحفظ ما تستحفظنيه، عالم بوجوه التصرف، وصفا لنفسه بالأمانة والكفاية اللتين هما طلبة الملوك ممن يولونه، وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام اللّه تعالى وإقامة الحق وبسط العدل، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أنّ أحدا غيره لا يقوم مقامه في ذلك، فطلب التولية ابتغاء وجه اللّه لا لحب الملك والدنيا. وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم: «رحم اللّه أخى يوسف، لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض، لاستعمله من ساعته، ولكنه أخر ذلك سنة» فإن قلت: كيف جاز أن يتولى عملا من يد كافر ويكون تبعًا له وتحت أمره وطاعته؟
قلت: روى مجاهد أنه كان قد أسلم: وعن قتادة. هو دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان عملا من يد سلطان جائر، وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة البغاة ويرونه. وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر اللّه ودفع الظلم إلا بتمكين الملك الكافر أو الفاسق. فله أن يستظهر به. وقيل: كان الملك يصدر عن رأيه ولا يعترض عليه في كل ما رأى، فكان في حكم التابع له والمطيع.

.[سورة يوسف: آية 56]

{وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)}
{وَكَذلِكَ} ومثل ذلك التمكين الظاهر {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} في أرض مصر. روى أنها كانت أربعين فرسخا في أربعين {يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ} قرئ بالنون والياء، أي: كل مكان أراد أن يتخذه منزلا ومتبوّأ له، لم يمنع منه لاستيلائه على جميعها ودخوله تحت ملكته وسلطانه. روى أنّ الملك توّجه، وختمه بخاتمه، ورداه بسيفه. ووضع له سريرًا من ذهب مكللا بالدرّ والياقوت. روى أنه قال له: أمّا السرير فأشدّ به ملكك. وأمّا الخاتم فأدبر به أمرك، وأمّا التاج فليس من لباسى ولا لباس آبائي. فقال: قد وضعته إجلالا لك وإقرارًا بفضلك. فجلس على السرير ودانت له الملوك، وفوّض الملك إليه أمره وعزل قطفير، ثم مات بعده، فزوّجه الملك امرأته زليخا، فلما دخل عليها قال: أليس هذا خيرًا مما طلبت؟ فوجدها عذراء، فولدت له ولدين: إفراثيم وميشا، وأقام العدل بمصر، وأحبته الرجال والنساء، وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس، وباع من أهل مصر في سنى القحط الطعام بالدنانير والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شيء منها، ثم بالحلى والجواهر، ثم بالدواب، ثم بالضياع والعقار، ثم برقابهم حتى استرقهم جميعًا، فقالوا: واللّه ما رأينا كاليوم ملكا أجلّ ولا أعظم منه، فقال للملك: كيف رأيت صنع اللّه بى فيما خوّلنى فما ترى؟ قال: الرأى رأيك. قال: فإنى أشهد اللّه وأشهدك أنى أعتقت أهل مصر عن آخرهم. ورددت عليهم أملاكهم، وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير، تقسيطًا بين الناس. وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام نحو ما أصاب أرض مصر، فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا واحتبس بنيامين {بِرَحْمَتِنا} بعطائنا في الدنيا من الملك والغنى وغيرهما من النعم {مَنْ نَشاءُ} من اقتضت الحكمة أن نشاء له ذلك {وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} أن نأجرهم في الدنيا.

.[سورة يوسف: آية 57]

{وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57)}
{وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} لهم. قال سفيان بن عيينة: المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة، والفاجر يعجل له الخير في الدنيا، وما له في الاخرة من خلاق، وتلا هذه الآية.

.[سورة يوسف: آية 58]

{وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)}
لم يعرفوه لطول العهد ومفارقته إياهم في سنّ الحداثة، ولاعتقادهم أنه قد هلك، ولذهابه عن أوهامهم لقلة فكرهم فيه واهتمامهم بشأنه، ولبعد حاله التي بلغها من الملك والسلطان عن حاله التي فارقوه عليها طريحًا في البئر، مشريًا بدراهم معدودة، حتى لو تخيل لهم أنه هو لكذبوا أنفسهم وظنونهم، ولأنّ الملك مما يبدّل الزىّ ويلبس صاحبه من التهيب والاستعظام ما ينكر له المعروف. وقيل: رأوه على زىّ فرعون عليه ثياب الحرير جالسًا على سرير في عنقه طوق من ذهب وعلى رأسه تاج، فما خطر ببالهم أنه هو. وقيل: ما رأوه إلا من بعيد بينهم وبينه مسافة وحجاب، وما وقفوا إلا حيث يقف طلاب الحوائج، وإنما عرفهم لأنه فارقهم وهم رجال ورأى زيهم قريبا من زيهم إذ ذلك، ولأنّ همته كانت معقودة بهم وبمعرفتهم، فكان يتأمّل ويتفطن. وعن الحسن: ما عرفهم حتى تعرّفوا له.

.[سورة يوسف: الآيات 59- 60]

{وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60)}
{وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ} أي أصلحهم بعدّتهم وهي عدّة السفر من الزاد وما يحتاج إليه المسافرون وأوقر ركائبهم بما جاءوا من الميرة. وقرئ: {بِجَهازِهِمْ} بكسر الجيم {قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} لابد من مقدمة سبقت له معهم، حتى اجتر القول هذه المسألة. روى أنه لما رآهم وكلموه بالعبرانية قال لهم: أخبرونى من أنتم وما شأنكم؟ فإنى أنكركم. قالوا: نحن قوم من أهل الشام رعاة، أصابنا الجهد فجئنا نمتار، فقال، لعلكم جئتم عيونا تنظرون عورة بلادي؟ قالوا: معاذ اللّه، نحن إخوة بنو أب واحد، وهو شيخ صدّيق نبى من الأنبياء، اسمه يعقوب. قال: كم أنتم؟ قالوا كنا اثنى عشر، فهلك منا واحد. قال: فكم أنتم هاهنا؟
قالوا: عشرة. قال: فأين الأخ الحادي عشر؟ قالوا: هو عند أبيه يتسلى به من الهالك. قال: فمن يشهد لكم أنكم لستم بعيون وأنّ الذي تقولون حق؟ قالوا: إنا ببلاد لا يعرفنا فيها أحد فيشهد لنا. قال: فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخيكم من أبيكم، وهو يحمل رسالة من أبيكم حتى أصدقكم، فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون- وكان أحسنهم رأيا في يوسف- فخلفوه عنده، وكان قد أحسن إنزالهم وضيافتهم {وَلا تَقْرَبُونِ} فيه وجهان، أحدهما: أن يكون داخلا في حكم الجزاء مجزومًا، عطفا على محل قوله: {فَلا كَيْلَ لَكُمْ} كأنه قيل: فإن لم تأتونى به تحرموا ولا تقربوا، وأن يكون بمعنى النهى.

.[سورة يوسف: آية 61]

{قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61)}
{سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ} سنخادعه عنه، وسنجتهد ونحتال حتى تنتزعه من يده {وَإِنَّا لَفاعِلُونَ} وإنا لقادرون على ذلك لا نتعايى به. أو وإنا لفاعلون ذلك لا محالة لا نفرط فيه ولا نتوانى.

.[سورة يوسف: آية 62]

{وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)}
{لِفِتْيانِهِ} وقرئ: {لفتيانه} وهما جمع فتى، كإخوة وإخوان في أخ، وفعلة للقلة.
وفعلان للكثرة، أي لغلمانه الكيالين {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها} لعلهم يعرفون حق ردّها وحق التكرّم بإعطاء البدلين {إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ} وفرغوا ظروفهم {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لعل معرفتهم بذلك تدعوهم إلى الرجوع إلينا، وكانت بضاعتهم النعال والأدم. وقيل: تخوّف أن لا يكون عند أبيه من المتاع ما يرجعون به. وقيل: لم ير من الكرم أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمنًا. وقيل: علم أن ديانتهم تحملهم على ردّ البضاعة لا يستحلون إمساكها فيرجعون لأجلها.
وقيل: معنى: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لعلهم يردّونها.

.[سورة يوسف: آية 63]

{فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63)}
{مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} يريدون قول يوسف فإن لم تأتونى به فلا كيل لكم عندي، لأنهم إذا أنذروا بمنع الكيل فقد منع الكيل {نَكْتَلْ} نرفع المانع من الكيل، ونكتل من الطعام ما نحتاج إليه. وقرئ: {يكتل} بمعنى يكتل. أخونا، فينضم اكتياله إلى اكتيالنا. أو يكن سببًا للاكتيال فإن امتناعه بسببه.

.[سورة يوسف: آية 64]

{قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)}
{هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ} يريد أنكم قلتم في يوسف {وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} كما تقولونه في أخيه، ثم خنتم بضمانكم، فما يؤمنني من مثل ذلك. ثم قال: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظًا} فتوكل على اللّه فيه ودفعه إليهم. وحافِظًا تمييز، كقولك: هو خيرهم رجلا، وللّه درّه فارسًا. ويجوز أن يكون حالا.
وقرئ: {حفظا} وقرأ الأعمش: {فاللّه خير حافظ}. وقرأ أبو هريرة: {خير الحافظين} وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فأرجوا أن ينعم علىّ بحفظه ولا يجمع علىّ مصيبتين.

.[سورة يوسف: آية 65]

{وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)}
وقرئ: {رُدَّتْ إِلَيْنا} بالكسر، على أن كسرة الدال المدغمة نقلت إلى الراء، كما في: قيل وبيع، وحكى قطرب ضرب زيد. على نقل كسرة الراء فيمن سكنها إلى الضاد ما نَبْغِي للنفي، أي: ما نبغى في القول، وما نتزيد فيما وصفنا لك من إحسان الملك وإكرامه، وكانوا قالوا له: إنا قدمنا على خير رجل، أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلا من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته. أو ما نبتغى شيئًا وراء ما فعل بنا من الإحسان. أو على الاستفهام، بمعنى أي شيء نطلب وراء هذا؟ وفي قراءة ابن مسعود: {ما تبغي}، بالتاء على مخاطبة يعقوب، معناه: أي شيء تطلب وراء هذا من الإحسان، أو من الشاهد على صدقنا؟ وقيل: معناه ما نريد منك بضاعة أخرى. وقوله: {هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا} جملة مستأنفة موضحة لقوله: {ما نَبْغِي} والجمل بعدها معطوفة عليها، على معنى: إن بضاعتنا ردّت إلينا، فنستظهر بها {وَنَمِيرُ أَهْلَنا} في رجوعنا إلى الملك {وَنَحْفَظُ أَخانا} فما يصيبه شيء مما تخافه، ونزداد باستصحاب أخينا وسق بعير زائدًا على أو ساق أباعرنا، فأى شيء نبتغى وراء هذه المباغى التي نستصلح بها أحوالنا ونوسع ذات أيدينا: وإنما قالوا {وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} لما ذكرنا أنه كان لا يزيد للرجل على حمل بعير للتقسيط. فإن قلت: هذا إذا فسرت البغي بالطلب، فأما إذا فسرته بالكذب والتزيد في القول، كانت الجملة الأولى وهي قوله: {هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا} بيانًا لصدقهم وانتفاء التزيد عن قيلهم، فما تصنع بالجمل البواقي؟ قلت: أعطفها على قوله: {ما نَبْغِي} على معنى: لا نبغى فيما نقول {وَنَمِيرُ أَهْلَنا} ونفعل كيت وكيت. ويجوز أن يكون كلامًا مبتدأ، كقولك: وينبغي أن نمير أهلنا، كما تقول: سعيت في حاجة فلان، واجتهدت في تحصيل غرضه. ويجب أن أسعى، وينبغي لي أن لا أقصر.
ويجوز أن يراد: ما نبغى وما ننطق إلا بالصواب فيما نشير به عليك من تجهيزنا مع أخينا، ثم قالوا: هذه بضاعتنا نستظهر بها ونمير أهلنا ونفعل ونصنع، بيانًا لأنهم لا يبغون في رأيهم وأنهم مصيبون فيه، وهو وجه حسن واضح {ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} أي ذلك مكيل قليل لا يكفينا، يعنون: ما يكال لهم، فأرادوا أن يزدادوا إليه ما يكال لأخيهم. أو يكون ذلك إشارة إلى كيل بعير، أي ذلك الكيل شيء قليل يجيبنا إليه الملك ولا يضايقنا فيه، أو سهل عليه متيسر لا يتعاظمه. ويجوز أن يكون من كلام يعقوب، وأن حمل بعير واحد شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد، كقوله: {ذلِكَ لِيَعْلَمَ}.

.[سورة يوسف: آية 66]

{قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66)}
{لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ} مناف حالى- وقد رأيت منكم ما رأيت- إرساله معكم {حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} حتى تعطوني ما أتوثق به من عند اللّه، أراد أن يحلفوا له باللّه: وإنما جعل الحلف باللّه موثقًا منه لأن الحلف به مما تؤكد به العهود وتشدّد. وقد أذن اللّه في ذلك فهو إذن منه {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ} جواب اليمين، لأن المعنى: حتى تحلفوا لتأتننى به {إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ} إلا أن تغلبوا فلم تطيقوا الإتيان به. أو إلا أن تهلكوا. فإن قلت: أخبرنى عن حقيقة هذا الاستثناء ففيه إشكال؟ قلت: {أَنْ يُحاطَ بِكُمْ} مفعول له، والكلام المثبت الذي هو قوله: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ} في تأويل النفي. معناه: لا تمتنعون من الإتيان به إلا للإحاطة بكم، أي: لا تمتنعون منه لعلة من العلل إلا لعلة واحدة: وهي أن يحاط بكم، فهو استثناء من أعم العام في المفعول له، والاستثناء من أعم العام لا يكون إلا في النفي وحده، فلابد من تأويله بالنفي. ونظيره من الإثبات المتأوّل بمعنى النفي قولهم: أقسمت باللّه لما فعلت وإلا فعلت، تريد: ما أطلب منك إلا الفعل {عَلى ما نَقُولُ} من طلب الموثق وإعطائه {وَكِيلٌ} رقيب مطلع.

.[سورة يوسف: الآيات 67- 68]

{وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68)}
وإنما نهاهم أن يدخلوا من باب واحد، لأنهم كانوا ذوى بهاء وشارة حسنة، اشتهرهم أهل مصر بالقربة عند الملك والتكرمة الخاصة التي لم تكن لغيرهم، فكانوا مظنة لطموح الأبصار إليهم من بين الوفود، وأن يشار إليهم بالأصابع. ويقال هؤلاء أضياف الملك، انظروا إليهم ما أحسنهم من فتيان، وما أحقهم بالإكرام، لأمر مّا أكرمهم الملك وقرّبهم وفضلهم على الوافدين عليه، فخاف لذلك أن يدخلوا كوكبة واحدة، فيعانوا لجمالهم وجلالة أمرهم في الصدور، فيصيبهم ما يسوؤهم، ولذلك لم يوصهم بالتفرق في الكرّة الأولى، لأنهم كانوا مجهولين مغمورين بين الناس. فإن قلت: هل للإصابة بالعين وجه تصحّ عليه؟ قلت: يجوز أن يحدث اللّه عز وجل عند النظر إلى الشيء والإعجاب به، نقصانًا فيه وخللا من بعض الوجوه، ويكون ذلك ابتلاء من اللّه وامتحانًا لعباده، ليتميز المحققون من أهل الحشو فيقول المحقق: هذا فعل اللّه، ويقول الحشوى: هو أثر العين، كما قال تعالى: {وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} الآية. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول: أعيذ كما بكلمات اللّه التامّة، من كل عين لامّة، ومن كل شيطان وهامّة» {وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} يعنى إن أراد اللّه بكم سوءًا لم ينفعكم ولم يدفع عنكم ما أشرت به عليكم من التفرق، وهو مصيبكم لا محالة {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} ثم قال: {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ} أي متفرقين {ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ} رأى يعقوب ودخولهم متفرّقين {شيئًا} قط، حيث أصابهم ما ساءهم مع تفرّقهم، من إضافة السرقة إليهم وافتضاحهم بذلك، وأخذ أخيهم بوجدان الصواع في رحله، وتضاعف المصيبة على أبيهم {إِلَّا حاجَةً} استثناء منقطع، على معنى: ولكن حاجة فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وهي شفقته عليهم وإظهارها بما قاله لهم ووصاهم به {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ} يعنى قوله: {وَما أُغْنِي عَنْكُمْ} وعلمه بأن القدر لا يغنى عنه الحذر.